الأربعاء، تشرين الثاني ٠١، ٢٠٠٦

رقصة على الشاطئ العكاوي

كشجرة البلوط المقدسة كانت تقف دونما انكسار.. عيناها البندقيتان.. وشعرها الأسود قد زينته بزهور برية، ما زال يحكي حكاية الليل الطويلة، هي أم الجدايل التي تعشق الرقص على الشاطئ العكاوي.
صياد احترف صيد الجنيات، يخطف اللقمة من فك الوحوش.. عيناه الساهمتان ما زالتا تحلمان برقصة أحلى على شاطئ أجمل.... هو ظريف الطول..
ظريف الطول وأم الجدايل تعاهدا على المحبة والوفاء أمام الأعمدة...
على ذاك الشاطئ المسحور رقصا معا.. الأمواج كانت تميل معهما.. أم الجدايل تشارك ظريف الطول الرقص.. والأعمدة تشاركهما الفرحة، بيدها اليمنى تلوح بذاك المنديل الذي ثبتت على أطرافه بعض الودع الرائع.. وترتفع أغاني الدلعونا والعتابا.. وأم الجدايل تطير.. تميل للأمام وللخلف مع ظريف الطول وبقية الراقصين.
أم الجدايل أصبح يضرب بها المثل.. " ويا ظريف الطول وقف تاقلك رايح عالغربة وبلادك أحسلك" أم الجدايل ما زالت تذكر كلماته ولهجته المعسولة كان دائما يقول لها مداعبا شعرها.. متأملا عيناها بعينين غامقتين وراء غلالة من الدموع... ما بك يا عكا؟ لماذا تبدين خائفة؟ أنا بجانبك.. أنا ظريف الطول لست بغازٍ إنجليزي.. لن أبتعد عنك.. حتى لو غبت.. سأعود حتى لو بعد دهر لنكمل الرقص ويشاركنا الشاطئ وتشاركنا الأعمدة..
"عكا" هذا هو الاسم الذي اختاره لها.. حتى تبقى محفورة في قلبه وعلى ذاك الشاطئ العكاوي حفرت ملامحها.. حتى أن الأمواج تشتاقها وتسأل عنها.. والأعمدة.. ما زالت تتخاصر تميل على أنغام الألحان الماضية.. وأم الجدايل تقف بعيدا عن ساحة الرقص فرفيق دربها بعيد.. لا يشاركها الرقص.. لا تعرف أين ذهب.. هل أخذه البحر الحاقد الغادر كما أخذ غيره.. أم سيقذفه بطلاً محرراً لا ميتاً هزمته الريح العاتية..
أم الجدايل ما زالت تنتظر أن يأتي ليخلصها من قيود الذهب المزيف والأعمدة تميل.. والأمواج تهمس في أذن الرمال.. ما بها أم الجدايل؟ أين خصرها الذي كان يميل مع كل نغمة.. وأين أناملها التي كانت تمسك المنديل وترقص دونما كلل.. هل تعبت؟ أم أن أناملها شققها طول الانتظار....
أم الجدايل اليوم أصبحت تعشق الرقص على أنغام الرصاص.. تحولت إلى امرأة تحمل بندقية بيد.. وتحتفظ بمنديلها باليد الأخرى.. أما ظريف الطول.. فهو يمارس رقصا من نوع آخر.. يرقص مأمورا بعد أن كان آمراً.. ويلوح بيديه المكبلتين طالباً ماءً أو بعض طعام..
كانون يلتقط أنفاسه الأخيرة من ذاك العام وما زالت تنتظر.. ترفض أن يشاركها أحدهم الرقص.. ما زالت تحتفظ بالمنديل.. وما زالت تحفظ تلك الأغنية عن ظهر قلب... تخاطب رمال الشاطئ الساجي وتسألها وتلح عليها بالرجاء والأمل أن تجيبها إذا كانت قد رأت ظريف الطول، أو أنها وجدت كوفيته التي كانت تعشقها وتضمها إلى صدرها.. فتشعر بامتلاك البحر وما فيه.
ظريف الطول ما زال بعيدا يحلم برقصة أحلى، على شاطئ نقي نظيف.. وأم الجدايل ما زالت تذكر جيدا تلك الساحة التي كانوا يرقصون فيها.. الشبان والصبايا، وذاك الجدار القصير الذي كانوا إذا تعبوا يلقون بظهورهم عليه، تناقض عدد الشبان والصبايا.. وذاك الجدار امتدت جذوره حتى وصلت إلى أعناقهم وأصبح خانقا.. خطف كل شيء.. أما الصبايا والشبان، وما تبقى منهم.. يدبِكون، يقبلون الأرض بعيونهم الحالمة.. يحاولون رفع أيديهم المكبلة.. ولكن..
لحظات من التفكير.. تعود أم الجدايل للسؤال نفسه والحلم ذاته... ظريف الطول.. أين أنت؟! لماذا تركتني وحيدة.. ألم تعدني بأن تعود وتشاركني الرقص.. الريح يعصف بمنديلها.. انتظرت طويلا.. بكت.. حاولت أن تستعيد وقفتها استعدادا للرقص.. صرخت... هي لا تستطيع.. الدمع يخونها.. تغني أغنية الموت.. واللحن الباكي بلا صوت.. هي تنهار كما ذاك الجدار سينهار وتتمزق ككل المعاهدات المزيفة...
تقفز إلى الشاطئ تعانق تلك الأمواج وتشاركها الرقص.. تطير.. تحلق بعيدا.. تلتقي بظريف الطول في مكان جميل لم تشهده عيناها من قبل.. تلقي بنفسها في أحضانه .. تهمس بأذنه.. عكا هنا.. جاءت لتكمل الرقص.. عكا تحبك أيها البطل.
الناي، الربابة.. "ويا ظريف الطول وين رايح تاروح جرحت قلبي وغمقت الجروح"